شبكة العاصمة اونلاين
عصام العطار سنة 2002م، وما يَزالُ هذا المَقال صالِحاً في جَوْهَرِهِ وبعضِ جَوانِبهِ لِفَهْمٍ أفضَلَ للعالَمِ هذِهِ الأيّام
——————
يزدادُ قلقي هذه الأيام، وليس ذلك لِما يُصيبُ العربَ والمسلمين في بلادِهم وفي شَتَّى أنحاءِ العالمِ فَقَط؛ ولكِنْ لِما يُحْتَمل أن يُصيبَ البشرَ جميعاً، ويصيبَ الإنسان حيثما كان.. من الشرِّ والبَلاء
وليسَ الخيْرُ والصَّلاحُ في هذه الدنيا جَديداً ولا خالِصاً.
وليسَ الشرُّ والفسادُ في هذه الدنيا جديداً ولا خالصاً.
ولكنّ حَجْمَ الخير والشرّ قد عَظُم وعَظُم، ووسائلَه قد نَمَتْ ونمتْ، وقَوِيَتْ وامتدّتْ.. فإذا انطلقَ بها -أيْ بهذهِ الوَسائل- الخيرُ أو الشرّ مِنْ مَكان، بلغَ بها أقصَى الأرض طولاً وعَرْضاً، صَلاحاً أو فساداً، عَمَاراً أو دَماراً..
وفي مخازنِ بعضِ الدول الكبرى الآن، وفي مخازن الولايات المتحدة الأمريكية على الخصوص، من القنابل النوويّةِ والهيدروجينيّة، وسائِرِ أسلحةِ الدّمارِ الشامل، ووسائِلِ إطلاقِها ونقلِها.. ما يكفي لِدَمارِ الأرض وما على الأرض ومَنْ على الأرض مَرّات ومرّات.. ومع ذلك فالولايات المتحدة الأمريكية تريدُ أنْ تزيدَ سلاحَها سِلاحاً، وقدرتَها قُدْرَةً على الفتك والقتل وإبادة الخصوم، دونَ أنْ تواجهَهُم بجُنودِها وجْهاً لوجه في ميادين القتال على الأرض!.. وإذا نجحت الولايات المتحدة يوماً من الأيام في إقامَةِ الدّرْع الصاروخيّ الذي يحميها من الصواريخ، فأصبحتْ تُصيبُ ولا تُصاب، وأمنتْ بعضَ الدول النووية الأخرى التي تحسبُ لها الآن بعضَ الحساب.. فويلٌ للعالم مِمّا سوف يَصيرُ إليه
لقد قام السلام النِّسبيّ، بعد الحرب العالمية الثانية، بين الولايات المتحدة الأمريكية و«الاتحاد السوفييتي»، ومن يلوذ بهما من الدول على «توازُن الرعب».
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تملك السلاح النوويّ، وكان الاتحاد السوفييتي يملكُه.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية، تملك الصواريخ والطائرات التي تصل بقنابلها إلى حيث تريد، وكان الاتحاد السوفييتي يملك الصواريخ والطائرات التي تصل بقنابله إلى حيث يريد.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي ومن لَحِقَ بهما يخشون إذا سبقوا بضَرَبـَاتهم أن يأتيهم الجواب عليها بالمُقابل ضربات مُماثِلَة من الأرض والجوّ ومن فوق الماء وتحت الماء، فما كان بإمكان الضربات الأولى -ولو كانت مفاجئة- أن تقضي على إمكانات الرَدّ.
كان السلام بين القطبين الأعظم ومن دار في فلكهما يقوم على «توازن الرعب» كما قلت.
سلامٌ أَمْلاهُ -إلى حَدٍّ بعيد- الخوفُ المتبادلُ، ولم تُمْلِهِ الأُخوّةُ الإنسانية، والقيمُ الأخلاقية، والرغبةُ الصادقة في السلامِ والوئامِ والتعاونِ السِّلْميّ لتحقيق الخير المشترك.. ولذلك لم يَعُمَّ هذا السلام الاضطراريّ كثيراً من دول العالم الثالث التي تَحَوَّلتْ على رقعة العالم إلى بيادق بأيدي القوّتين العُظْميَيْن تتنافسان أو تتصارَعان أو تلعبان بها وحولَها تفادياً للصِّدام المباشر.
كان السلام بين القطبين الأعظم يقوم على «توازن الرعب»، وقد اختلَّ هذا التوازن اقتصاديّاً وسياسيّاً، فإذا اكتمل اختلالُهُ العسكريّ أيضاً، بين الولايات المتحدة وغيرها من الدول الكبيرة.. اكتملَتْ -على درجات متفاوتة- هيمنةُ القطب الواحد الأقوَى، وتحكُّمه الأكبر بالدُّوَل الأضعف.
والمُلاحَظ أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تتّجه إلى تحويل العالم من «أمَم مُتّحِدَة» إلى «إمبراطورية» تحكُمُها هي وحدَها وَفْقَ معاييرها وأهوائها ومصالحها، فهي تتخذ من منظمة الأمم المتحدة أداةً وستاراً لتحقيق مصالحِها، وتنفيذِ رَغائبها، وهي تُهَمِّشُ الأمَم المتحدة -أحياناً- وتُبْعِدُها عَنْ مُمارسَةِ حقّها، وأداءِ دورِها، وهي تُهْمِلُها أحياناً وتتصرّف كأنّها غيرُ موجودة.
وهي -أي الولايات المتحدة الأمريكية- لا تتقيّد بالقوانين والاتفاقات الدولية إذا عارضتْ مصلحتَها أو خالفتْ سياستَها؛ بلْ إنّها لم تَعُدْ تَحفِل كثيراً حتّى بحلفائها الأوروبـيـّين.. وقد تُملي عليهم -أحياناً- بعضَ ما تُمليه على دول العالم الثالث..
القولُ في الأمور الكبيرة هو قولُها، والقرارُ هو قرارُها، وما على حُلَفائِها وغيرهم -ما عدا قليلاً منهم- إلا السّمع والطاعة، والقيام بما تطالبهم به.
إنّهُ منطقُ الامبراطورية، لا منطقُ التعدّدية الأُمَمِيّة والدولية.
إنّه منطقُ الأَباطرةِ المستبدّين الذين يريدون أن يحكموا العالم كما يشتهون..
ويا لَهذِهِ الإمبراطورية الجديدة، ويا لأَباطِرَتِها الجُدُد ما أقساهُم، وما أَشدَّ صَرامَتَهم:
«من لم يكن مَعَنا فهو علينا»!
هكذا قال الرئيس بوش
فأنتَ -فرداً كنتَ أو شَعْباً أو دولةً من الدول- بين خيارين:
إما أن تكون مع بوش وإدارتِه، فتنقادَ له وتتبعَه في الحقّ والباطل، والصّواب والخطأ، والعُسْر واليسر، والْمَنْشَط والْمَكْرَه.. وإلاّ فأنتَ خصم وعدو.. ومن حَقِّه أن يَسْحَقَكَ سَحْقاً ويَمْحَقَكَ مَحْقاً!!.. وأنَّى لكَ أنتَ المسكين الضعيف أن تُواجهَ قوّةً طاغيةً لا تُحيطُ بمِثْلِها العقول، ولا يَبْلُغ أبعادَها الخيال؟!
ولا تَسألْ بعد ذلك عن الحرية والديمقراطية والتعدّدية وحقوق الإنسان؛ فما هي إلا شعارات يُسْتَمْسَكُ بها، أو تُهْمَل وتُداس، بمقدار ما تقتضيها أو تَنْفيها المصالحُ والمطامعُ والظروف!
ويقول الرئيس بوش مهدّداً الدول التي تُؤوي إرهابيين
-والإرهابي عنده كما يبدو هو كلّ من يخالف سياسةَ الولايات المتحدة، ويخرج عن إرادتها.. ولو دفاعاً مشروعاً بكلّ مَقاييس السماء والأرض عن بلده وبيته وأسرته وأطفاله-.. يقول الرئيس بوش مهدّداً متوعّداً مُنذِراً ما خلاصته: إنه إن لم يقم حكام هذه الدول بمطاردة الإرهابيين: -يعني مَنْ يتهمهم بالإرهاب- فإنه سيقوم هو بنفسه بمطاردتهم!!»
أين الأمم المتحدة إذن؟! أين مجلس الأمن؟! أين القوانين الدولية والمَحاكم الدولية؟! أين احترام سيادة الدول والأمم؟! أين ذلك كلُّه، ولماذا ذلك كلُّه إذا كان صاحب القوّة الأكبر هو الذي يَتَّهم بالحقّ أو الباطل، ويقضي بالعدل أو الظلم، وينفِّذ حكمَه بالمشروع وغير المشروع من الوَسائل؟!
ومن أخطر ما عاينّاه في الأشهر الأخيرة غيابُ الشعور الإنسانيّ والأخلاقيّ في النفوس:
سُئِل وزيرُ الدفاع الأمريكيّ „دونالد رامسفيلد“ عن الأسرى: ماذا سيصنعونه بهم؟ قالَ -إن صَدَقَتْني الذاكرة-: “نحن لا نُريدُهم أَسرى.. لا نُريدهم أحياء.. نحن نريدهم أمواتا.“ وبعد عِدّة أيام كانت مذبحة قلعة „جانجي“ الرّهيبة التي أُسْدِلَتْ على فَواجعها ومَواجعها الأستار: قُتل في هذه المذبحة بضعُ مئات من الأسرى الذين لا حَوْلَ لهم ولا طَوْل.. ومنهم مقيّدون لا يملكون لِعَدُوِّهِم كَيْداً، ولا عن أنفسهم دَفْعاً!!!
أما ما يجري في قاعدة „غوانتانامو“ في كوبا فغَنِيٌّ بدلالاته الصارخة الفاضحة عن أيّ تعليق
أيها الإخوة القراء!
- عندي أشياء أخرى أقولُها، ولكن لا يتسع لها صدرُ هذه الصفحات المحدودة، ولذلك أكتفي بالقليل القليل الذي سبق:
دولةٌ ذاتُ قوّة عالمية هائلة لا يماثلُها فيها ولا يقاربُها غيرُها
دولة تجعل نفسَها ومصلحتَها، بَلْ وأهواءَها في بعض الأحيان، مقياساً للحقّ والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشرّ.
دولة تُعطي نفسَها عندما تريد حقَّ تجاوزِ المؤسّسات الدولية، والقوانين الدولية، والمواثيق الدولية، ونصائحِ الأصدقاء والحلفاء ومصالِحهم إذا تعارضت بينها وبينهم المصالح والآراء
دولة لا تبالي من أجل النصر السريع الرخيص أن تَصُبَّ على من تُحاربه من الدول والشعوب الموتَ والدّمارَ صَبّاً من السماء، وأن تسحق المذنبين والأبرياء على حدٍّ سواء، لضرورة ولغير ضرورة أيضاً في بعض الأحيان، كما فعلت هي وبريطانيا في مدينة „دريسدن“ الألمانية العريقة في الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال.
أليست هذه القضية وما يماثلها -وإن كانت دونَها في الوقت الحاضر- مشكلات عالمية مشتركة تَخُصُّ العالم كلَّه: حاضِرَهُ ومستقبَلَه؟! ولا يمكن أن يواجهها أحد بمفرده.
نعم، يا أيها الإخوة القراء
إنّ قلقي ليزداد يوماً بعد يوم على العالم كلِّه: على حاضرِه ومستقبلِه، وليس على العالم العربيّ والإسلاميّ وحدَه، فما أشدَّ ما تَرابطت مصائرُ البشر في هذا العصر! وهي ستكون في مقبلات الأيام أشدَّ ترابُطاً؛ ونحن -قبلَ ذلك وبعدَ ذلك- قومٌ نؤمن بالأُخُوّة الإنسانية الشاملة أعمقَ الإيمان، ونهتمُّ -كما يعلِّمُنا دينُنا- بالبشر جميعاً، ونحبُّ لهم ما نحبُّه لأنفسِنا مِنَ الهداية والعافية والخير
يجب أن تستيقظ شعوبُ العالم، وفي طليعتها شعوبُ الولايات المتحدة الأمريكية، إلى ما يتهدّد عالمَنا من المخاطر المُهْلِكة، وما يتهدّد مُكْتسبات البشر الثمينة عَـبْر التضحيات الغاليات، والعصور المتواليات.. مِنَ الحرية والكرامة والعدالة وسائر حقوق الإنسان
ويجب أن يتكاتف مُثَقَّفُو العالم ومُفَكِّروه، ومؤسساتُه الإنسانية والطلابية والعمالية، ومؤسساتُ حماية البيئة وحقوق الإنسان.. وأن يرفعوا أصواتَهُم في كُلِّ مكان من أجل الحق والعدالة والمستضعفين في الأرض.. من أجل السلام والحوار والتفاهم بين الدول والشعوب.. من أجل الإنسان وحقوقه الأساسية.. ومن أجل التعاون المُخلِص لبناء عالم أفضل، وحياة أفضل، للإنسانية والإنسان على كل صَعيد
ونحن -ولْيَكُنْ هذا واضحاً كلَّ الوُضوح- لا نضمر أيّة كراهية للشعوب الأمريكية والإنسان الأمريكي، ونُقَدِّر ما عند هذه الشعوب من المَزايا أحسن تقدير
ونحن كما ننقد سلبيات الولايات المتحدة، نعرف أيضاً إيجابيّاتِها ونَذْكُرُها، ونتمنّى أن تضع الولايات المتحدة طاقاتِها المتنوّعة الضخمة بصورة أخلصَ وأصدقَ، وأعدلَ وأقومَ وأفضلَ في خدمة الإنسانية والإنسان
ونحن -عَلِمَ اللَّه- نَكْرَهُ الإرهاب، ونشجُبُ الإرهاب، ونحاربُ الإرهاب في كُلِّ مَكان، ولقد آلمَنا كثيراً ما أصابَ الأبرياء في واشنطن ونيويورك، كما يؤلمنا ما يصيب الأبرياء في فلسطين وأفغانستان والعراق والشيشان.. وغيرِها وغيرِها من المَواطنِ والأوطان.
نحن نكرهُ الإرهاب ونَشْجُبُه؛ ولكننا نشجُبُ أيضاً أن تُتَّخَذَ مكافحةُ الإرهاب مُبَرّراً لإرهابٍ أبشعَ وأَعْتَى، وذريعةً لعُدوانٍ أظلمَ وأَطْغى، وفرصةً لتنفيذ مخطّطات مرسومة للاستيلاء على عَدَد من المواقع الاستراتيجيّة في العالم للهيمنة على العالم، وعلى عَدَد مِنْ شرايينِ حياتِه، ومَصادِرِ ثرْوَتِهِ وقُوَّتِه، وأَمَلِهِ في مستقبلٍ أفضل.