قبل أقل من مئة عام وقعت معاهدة سيفر، المعاهدة المذّلة والتي كانت إيذاناً بانتهاء الإمبراطورية العثمانية. حيث تخلت بموجبها السلطنة لدول الحلفاء عن جزء كبير من أراضيها لصالحهم، ووافقت على التدخل في شؤونها الداخلية، لدرجة أنهم أرادوا تعديل النظام الانتخابي ونظام التمثيل النسبي لمكونات الدولة العثمانية، وأيضا حاول الحلفاء السيطرة على موارد الدولة المالية، وصولا إلى القبول والإشراف على ميزانية الدولة والقوانين المالية، للسيطرة لاحقا على البنك العثماني. بنود المعاهدة كثيرة وكلها كانت مذلة بسبب ضعف الدولة التي كانت شبه مفككة.
المعاهدة رفضها لاحقا مصطفى كمال أتاتورك، وتم إجراء تعديلات عليها في معاهدة لوزان. حيث وافق أتاتورك على إلغاء الخلافة وطرد السلطان وعائلته خارج تركيا وفرض العلمانية، مقابل الاعتراف بالجمهورية واستعادة بعض الأراضي التي كانت قد منحت لسوريا (مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة وعنتاب وكلس ومرعش وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر) مع ترسيم جديد لعموم الحدود التركية.
معاهدة لوزان وقّعت في مثل هذا اليوم من عام 1923وكانت محددة المدة بمئة عام، أي أنه بعد سبع سنوات ستصبح الاتفاقية بحكم اللاغية، هي وكل بنودها التي كانت مجحفة بحق الأتراك. سيتسعيد الأتراك كامل السيادة على الأراضي التركية بما فيها مضيقي البوسفور والدردنيل.الاتفاقية وقعت بعد حرب طاحنة سميت في حينها الحرب العالمية الأولى، مثلها مثل كل المعاهدات التي تعقد عادة بعد حروب يجلس فيها المهزوم ليوقع على مايريده المنتصر.
السؤال الذي يبرز اليوم، كيف ستنتهي اتفاقية وقعت قبل مئة عام. هل سيقبل الغرب بتسليم تركيا المضائق واستعادة السيادة الكاملة على أراضيها بما فيها الاستفادة من ثرواتها الباطنية كالنفط والغاز. وهل سيقبل الغرب بدولة مسلمة قوية اقتصاديا وعسكريا تحكم بصندوق الإقتراع.
من الصعب اليوم أن نجد إجابة على هذا السؤال. لكن دعونا ننطلق من ردة فعل الغرب على محاولة الانقلاب الفاشلة. حيث لم تبدي الدول الغربية أي ردة فعل سريعة على الانقلاب، كانوا وكأنهم ينتظرون خبر الإطاحة بالحكومة المنتخبة على أحر من الجمر، حيث دلت تصريحاتهم لاحقا على خيبة أمل بفشل الانقلاب. ولاحقا حين فشل الانقلاب وبدأت حملة ضد الانقلابيين خرجت تصريحات غربية تدين عملية الاعتقال أكثر مما أدانوا عملية الانقلاب ذاتها.
وبعض المسؤولين ذهب بعيدا في تصريحاته، حيث هدد البعض بإعادة النظر بعضوية تركيا في حلف الناتو ووقف ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي، الاتحاد الذي قال أحد واضعي دستوره ” جيسكار ديستان” صراحة: “أن النادي الأوروبي هو ناد مسيحي وبالتالي لا يمكن لدولة إسلامية أن تدخله”.
التسريبات الأولية لتفاصيل الانقلاب تؤكد وجود تنسيق كبير بين الانقلابيين ودول كبرى. دول كان تنتظر عودة حكم العسكر في دولة اقتصادها قوي ويسير بخطى متسارعة نحو الازدهار، معدلات النمو في تركيا كانت مدهشة. يفضلون حكم الجنرالات على وجود حكومة منتخبة تدير البلاد بصناديق الاقتراع.
كشف الانقلاب في تركيا حقيقة القوى الكبرى حاليا والتي تدّعي أنها تريد نشر قيم الديمقراطية وحقوق الانسان. إذا تأكد وبشكل قاطع رفضهم لوجود دولة مسلمة قوية تحكم بديمقراطية هم من وضع أسسها. العقل الجمعي الغربي والقائم على منطق القوة لا يمكن له أن يحتمل وجود ديمقراطية حقيقية في دول مسلمة كانت تحت نفوذه.دعموا الانقلابات في باكستان والجزائر ومصر وأرادوا لانقلاب تركيا النجاح. لأنهم يعلمون جيدا أن أي تجربة ناجحة في دولة ما ستصبح نموذجاً يلهم بقية الدول.
بالعودة لمعاهدة لوزان والتي يصادف اليوم ذكرى توقيعها، وبما أنها وقعت بعد حرب عالمية طاحنة، فمن المنطقي أن لاتنتهي هذه الاتفاقية إلا بحرب جديدة. لا يمكن لنادي الأقوياء في العالم قبول عضوية جديدة دون حرب تعيد رسم المشهد من جديد.. هذا مايحصل دائما.